ثورة 17 تشرين لم تهزم بعد. ما زالت أطيافها تهاجم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وتجبره على أن يشنّ في آخر خطاباته معركة تخوين وتبخيس في حقّ المشاركين فيها.
لا يجانب نصر الله الصواب حين يقرر فتح مثل هذه المعركة الآن. ما راكمته تلك الثورة، على الرغم من قمعها، بات مؤسّساً لسياقاتٍ ثابتة، أصابته وزمنه ومنطقه وشرعيته في مقاتلَ، قد لا تكون القوّة العارية قادرةً على مداواتها.
فكّكت تلك الثورة هالة قداسة كان يخاطب الجميع من خلالها، وكانت تُوظّف في إنشاء خطاب ممتنع التأويل في السياسة بغض النظر عما يحتويه. تالياً كان نقاش نصر الله ينطوي على معنى الاعتداء على قداسة وليس مقارعة في السياسة. هكذا كان يمارس الشأن العام انطلاقاً من موقعٍ لا يمكن لأيٍ من أقرانه موازاته أو الاقتراب منه.
ما ينتج عنه لا يدخل في الشأن العام حتى إذا كان في صلب عناوينه، إنما كان بمثابة وحي يمكن أن تُرسم من خلاله خارطة طريق تخلق شأناً عاماً ينسجم مع معايير إسقاط الغيب على الواقع وتحويله إلى ظل له.
ثورة 17 تشرين أغرقت نصر الله بشكل حاسم ونهائي في وحل الفساد اللبناني العام بوصفه صاحبه ومنتجه، وفكّكت تلك الهالة التي كان يستعملها في تحويل المادي والمباشر إلى علوي، وجعلته واحداً من كثيرين، ولم تمنحة فرادة سوى في تسيد منظومة الفساد وحمايتها.
ولعل نصر الله يعرف أنّ بداية الانهيار الكبير لأي نظام مهما بلغ من السطوة تبدأ مع ظهور خدوش صغيرة في الهالة.
لم تخدش ثورة 17 تشرين هالته وحسب بك حطمتها تماماً، وقابلت سطوته المفتوحة باحتقار مفتوح، يعلم قبل غيره أنه، وعلى الرغم من إخمادها، قد اتخد طابعا تأسيسيّاً وحاسماً يمهّد لزمن جديد قد لا تنفع معه وسائل القمع القديمة.
ينظر نصر الله بوجوم إلى ثورة النساء والشباب وكلّ أطياف المجتمع الإيراني ضد حكم الملالي، ويرى أطياف ثورة 17 تشرين، ويقرأ أنّها ولدت من رحمها، ما يعني أنها قد تحوّلت إلى مفهوم وإلى مكبوت قادر على التناسل والانفجار في كل مكان داخل بقعة جغرافيا الموت التي صنعها على مثاله وهيئته.
سقوط هالة المرشد الأعلى علي الخامنئي في إيران وتسفيهها يرعب نصر الله بغضّ النظر عن معايير القوّة والقدرة على البطش التي ما يزال نظام الولي الفقيه يمتلكهما، لأن تلك الهالة الخاصّة به كانت تستمد وهجها وشرعيتها من متانة هالة الخامنئي التي لم يعد بإمكانها سوى أن تفرز العار والوحل والتصاق صورة الاحتقار والإجرام بها بشكل لا يمكنها الخروج منه، فماذا يستطيع الوكيل أن يفعل ما دام الأصيل قد بات مقيماً في دائرة الازدراء والاحتقار؟
العودة إلى إنتاج أميركا كعدوٍ مطلق خيار محفوف بالمخاطر في هذه اللحظة ويستدعي سخريّة فاقعة. السيد وحزبه قد باتا جزءًا من المنظومة الأميركيّة بعد اتفاق ترسيم الحدود، وكذلك فإنّ عناوين الصراع مع العدو الإسرائيلي أخلت الساحة لتطبيع لا يمكن إنكاره، وهو ما كان كلّ خطاب حزب الله منذ نشأته يقوم على اتهام خصومه بالسعي إليه.
طبيعة التحوّلات دفعت بأميركا إلى تسليمه البلد، ولكنّه يبدو عاجزا عن استيعاب هذه الهديّة. ليس في جعبته أعداء جدد ولا يملك خطاباً جديداً ولا لغة جديدة. يقع حزب الله في أسر نفسه ويبدو غير قادرٍ على هضم التوكيل الضخم الذي منحته إياه سلسلة من الظروف والمعادلات المعقدة.
يقول إنّ سلاحه أنتج نصراً في معادلة الترسيم، ولكنّه يعي الآن نفسه أنّ هذا الدرب سيؤدي في نهاية المطاف إلى نزع سلاحه وتفكيك وظيفته، كما أنّ الاحتماء بالدولة اللبنانيّة، كما يحرص في هذه المرحلة، يفترض استكمال المحافظة على هيكلها بالحدود الدنيا وتسهيل انتخاب رئيس جمهورية مقبول دوليّاً وعربيّاً وداخليّاً. هذا المسار يصطدم بآلية العمل التي طالما انتهجها الحزب وعقليته التي يعمل بموجبها على نشر التعطيل وإقفال كلّ سبل الحلول إلى أن تقبل الأطرف جميعها بما يقره ويفرضه .
السير بهذه المعادلة مكلف وشاق، ويعلن أنّه غير جاهز لمواكبة التحولات حتى إذا كانت تصب في صالحه وفي إطار تمكين سطوته، وذلك لأنه يريد أن يفرض سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية في حين أن ما يعنيه ذلك يفترض نضوج معادلات ما زالت غير ممكنة.
من ناحية أخرى فإنّ التعطيل هذه المرة لا يلعب دور وسيلة ضغط بقدر ما يضع الحزب في مواجهة مع حلفائه في الداخل، ويمنعه من الاستفادة من الظروف الدوليّة المناسبة له في هذه الفترة، كما أنّه يسهم في تعميق الأزمات المعيشية وتفاقمها ما يخلق جواً يؤذن بانفجار ثورات راديكاليّة لم يعد أسلوب قمع ثورة 17 تشرين بالقوة يجدي نفعاً معها، وخصوصاً أنها في حال حدثت لن تكون معزولةً بل ستكون جزءًا من سياق رفضٍ راديكالي ينمو ويتّسع في كلّ المنطقة.
يخاف نصر الله من المستقبل، ويعلم أن ثورة 17 تشرين لم تصبح من بضاعة الماضي على الرغم من ضربها، بل تتراءى له ملامحها محفورةً في مستقبل البلاد، في حين أنّ ملامحه السوداء لا تبدو قادرة على العبور إلى المستقبل ومصادرته وفرش ظلالها عليه، من هنا فإنه يعمل بكل ما أوتي من قوة على تمديد اللّحظة ومطّها بغية تحويلها إلى أبد.